من ساحة السراغنة إلى قلب الدار البيضاء…ذاكرة لا تُمحى


بقلم: سعيد ودغيري حسني

يحكى أن ساحة السراغنة لم تكن مجرد مكان يعج بالحياة، بل كانت شريانًا نابضًا في قلب كازابلانكا ذاكرة تختزن ملامح زمنٍ لا يزال يسكنني. في الخمسينيات كانت تُعرف بـ “عوينة الصابون”، حيث ينبوع الماء الذي تملأ منه الحاويات الكبيرة خزاناتها باستمرار، إلى جانب صغار بائعي الماء الذين يجوبون الأزقة حاملين قِربهم الجلدية. لم تكن المدينة حينها ترفل في نعيم الصنابير، فكان الماء يأتي عبر أيدٍ حفظت الممرات ومسارات الأحياء كما تحفظ القلوب أسماء أحبائها.

الرجل الأعمى والماء الذي يروي العطش

كان رجلاً ضريرًا يجر عربته الصغيرة ببطء، يتلمس الطريق بعصاه، يعرف كل بيت في الساحة كما لو كان دليلًا لدهاليزها. كان يعبئ القنينات بيديه يضعها بعناية ثم ينادي بصوت ثابت: “الماء… الماء!”. كان صوته جزءًا من يوميات المكان، تمامًا كالأذان الذي يصدح من المآذن أو الأغاني التي تخرج من المقاهي، بينما الصبية يركضون حفاة على بلاط الأزقة، يتقاذفون الأيام كما لو أنها ستبقى أبدًا.

القيسارية: روح التجارة والحياة

وعلى مقربةٍ من عوينة الصابون كانت القيسارية عامرةً بالحركة حيث التجار يعرضون بضائعهم وأصوات الباعة تتداخل كسمفونية فوضوية لها إيقاعها الخاص. لم يكن التسوق مجرد عملية شراء، بل لقاءً يوميًا تتناقل فيه الأخبار، وتُحاك فيه القصص، وتُبنى فيه العلاقات. القيسارية لم تكن سوقًا فحسب، بل ذاكرة اقتصادية واجتماعية لا تزال تعيش في أزقة المدينة القديمة.

خيول ماء جافيل التي لا تخطئ الطريق

كان هناك رجل آخر يقود عربة ضخمة محملة بـ ماء جافيل، تجرها خيول إنجليزية قوية، تحفظ الشوارع أفضل من أصحابها. كانت تتوقف عند كل متجر كما لو أن خريطة المدينة منقوشة في ذاكرتها. كنت أراقبها من بعيد، أخالها في لحظةٍ ما ستنطق بنفسها وتصرخ “جافيل” كما يفعل صاحبها، لفرط ما تماهت مع نداءاته اليومية.

وجوه لا تُنسى… ماسح الأندية والمصور المائي

في ركنٍ من الساحة، كان يقف ماسح الأندية القزم، رجلٌ قصير القامة، لكنه كان يملأ المكان بصوته وعلى الجانب الآخر كان هناك بوشعيب الأبكم، ليس مجرد ماسح للأندية، بل ملاكمٌ صلب يتدرب في نادي حزب القوات الشعبية بساحة السراغنة، يلوّح بيديه، وتتكلم إشاراته أكثر مما تستطيع الكلمات.
لكن الأكثر إثارة كان المصور المائي، الذي يحضر كل عام مع بداية الموسم الدراسي يحمل آلة تصوير مائية يلتقط بها وجوه الأطفال وهم في أبهى حللهم، يرتدون المآزر البيضاء، يمسكون دفاترهم الجديدة. كان يصنع الذكرى قبل أن يدرك أحدهم قيمتها، يوثق اللحظات قبل أن تنزلق بين أصابع الزمن.

نادي الفرس الذهبي… حيث صُنعت قصص النخبة

أما نادي الفرس الذهبي في المدينة الجديدة، فلم يكن مجرد مكان، بل كان ملتقى النخبة البيضاوية، حيث يجتمع رجال الفكر والسياسة: المعطى بوعبيد الذي سيصبح لاحقًا وزيرًا أول، عبد اللطيف السملالي الذي حمل مسؤولية وزارة الرياضة والشباب، الحاج محمد السقاط رجل الأعمال الذي لم يبخل في سبيل الخير، إلى جانب شعراء وفنانين أثروا الحياة الثقافية للمدينة مثل محمد سعيد عفيفي، محمد مجد، حسن الصقلي محمد بن إبراهيم وغيرهم.

دار الشباب بوشنتوف… حيث وُلد الحلم

وإذا كان نادي الفرس الذهبي ملتقى النخبة، فإن دار الشباب بوشنتوف كانت مهد الإبداع، حيث بدأ كل شيء بالنسبة لي. هناك، أسسنا فرقة البراعم، وضمّت بين أعضائها سفير حداد، زعزع، مليكة علوي. كنا نؤمن بأن المسرح ليس مجرد فن، بل حياة موازية، عالم نصنعه بأنفسنا.
في عام 1973، كنت هناك، أكتب أول مسرحية لي، مترددًا بين الخشبة والكواليس. لكنني لم أكن وحدي، كان هناك من يشجعني: عبد العظيم الشناوي بصوته العميق وكلماته الدافئة، وثريا جبران التي لم تكن تعلم أنها ستصبح يومًا وزيرة للثقافة، لكنها كانت تعرف جيدًا كيف تعطي روحًا للمسرح، كيف تجعله ينبض بالحياة.

صوت المدينة حين كان الغناء يروي الوجدان

المقاهي كانت تصدح بأغاني أم كلثوم، عبد الوهاب، أسمهان، فريد الأطرش، عبد المطلب، محمد فوزي إلى جانب أصوات مغربية صنعت تاريخ الطرب: أحمد البيضاوي، فويتح، المعطي بنقاسم عبد الهادي بلخياط، عبد الوهاب الدكالي، محمد الحياني، إبراهيم العلمي، زويتن، البورزكي حميد الزاهر، قرزز، محراش، علي وعلي الحطاب، بوشعيب البيضاوي.
كل هذا كان يسقي آذاننا كما يسقي الماء العطشى، وكانت الموسيقى جزءًا من نبض المدينة، تمامًا كما كانت السينما تمنحنا لحظات من السحر. بجوار بيتنا، كانت شركة بوسيفون تسجل الأغاني، تفتح أبوابها لمحبي الفن، حيث كان الناس يتجمعون لمشاهدة العروض. أما شركة زيت كريستال، فقد كانت تفاجئنا بعروض أفلام على الهواء الطلق، تعرضها في الساحات كما لو كانت نوافذ مفتوحة على عوالم أخرى.

كازابلانكا… ذاكرة لا تُمحى

اليوم، حين أعود بذاكرتي إلى تلك السنوات، أشعر أنني ما زلت أراهم جميعًا: أسمع صوت الرجل الأعمى ينادي بالماء أتخيل الخيول التي كانت قاب قوسين أو أدنى من أن تصرخ “جافيل”، أرى المصور المائي يلتقط آخر صورة قبل أن تختفي مهنته للأبد.

هذه هي كازابلانكا كما عشتها
ليست مجرد مدينة، بل ذاكرة تنبض بالحياة، وصفحة لم يُكتب لها أن تُطوى.

زبدة القول
كازابلانكا في القلب لا تنطفئ
في الليل تسهر كصوت الطرب
في السوق أسمع خطوات الأعمى
تحكي عن الماء بين الحقب
وفي زوايا المقهى بحة لحن
ما بين زاهر وذاك الذهب
تحت المصابيح ينشد طفل
يروي الحكايات ملء التعب
والبحر يلمع مثل المرايا
يعكس وجوها تغيب وتقترب
يا قلب سر نحو تلك الأزقة
لا زال فيها رحيق السحب.

Read Previous

فيديو: ضبط قنينات غاز معدلة تحتوي على مسامير ومواد كيميائية ومتصلة بهواتف محمولة للتفجير عن بعد

Read Next

خبير إسباني: المغرب مرجع دولي في مجال مكافحة الإرهاب