يومية بريطانية تسلط الضوء على المؤهلات التي تجعل من المغرب الوجهة السياحية الأولى في إفريقيا
يتحدث رئيس الحكومة الليبية السابق محمود جبريل بقدر غير قليل من القلق على بلاده. يحض الليبيين على الشروع سريعاً في حوار جدّي وعميق ويلفتهم إلى أن بلادهم مهددة في وحدتها وسيادتها واقتصادها. يتابع التقارير التي تتهم جهات ليبية مسلحة بتصدير المقاتلين والسلاح الى دول اخرى فتتضاعف مخاوفه من ان تكون ليبيا اليوم خطرة على نفسها وعلى جيرانها، لافتاً الى ان ليبيا قد تتحول مشكلة امن قومي لمصر والجزائر وتونس مع ما يمكن ان يعنيه ذلك من ردود افعال وتدخلات.
تيسر للمعارضة الليبية دعم دولي لم يتيسر للسورية. وتيسر لها قرار دولي سهل لحلف شمال الاطلسي قصم ظهر نظام القذافي. كان القرار الرقم 1973 الذي اتخذه مجلس الامن الحبل الذي التف على عنق نظام معمر القذافي. ابلغ العقيد الامين العام للأمم المتحدة بان كي مون في اتصال هاتفي بينهما ان مندوب ليبيا عبدالرحمن شلقم مفوض العمل على قرار دولي. لم يخطر بباله أن شلقم سيوجّه الى نظامه طعنة قاتلة. وحين أنجزت صياغة القرار حاولت جهات تحذير شلقم من أخطاره فأوحى اليها ان القذافي يريد مثل هذا القرار الذي وظفه حلف شمال الاطلسي لقلب موازين القوى على الارض. هذه القصة تفسر جانباً من الموقف الروسي المتشدد في مجلس الامن كلما طرحت قضية الوضع الحالي في سورية.
تحدث جبريل عن ذلك القرار وحذر من الأخطار المحدقة ببلاده وهنا نص الحلقة الخامسة:
> أين كنت في 20 أيلول (سبتمبر) 2011 يوم مقتل معمر القذافي؟
– كنت في طرابلس. أبلغني أحد الثوار بأن القذافي اعتقل، وأن الثوار يتولون نقله من سرت إلى مصراتة. وكان الشخص يحدثني من سيارة تسير وراء سيارة القذافي المعتقل. ثم أبلغت فجأة بأن القذافي قتل. اتصلت برئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبدالجليل مرات عدة لكنه لم يرد. اتصلت بمدير مكتبه وطلبت أن يبلغه بضرورة أن يعلن لليبيين خبر مقتل القذافي فرد، طالباً مني أن أفعل ذلك. وهكذا أعلنت الخبر من فندق «المهاري» في طرابلس.
> هل شاهدت جثة القذافي؟
– نعم، ذهبت وشاهدتها ورأيتها مصابة برصاصتين واحدة في الرأس وأخرى في الصدر ولم ألاحظ وجود خدوش أو رضوض. وكنت على اتصال بالطبيب الذي تولى تشريح الجثة.
> بماذا شعرت حين وقفت أمام جثة القذافي؟
– شعرت بأن على الإنسان ألا تأخذه نشوة القوة إلى الطغيان. الحاكم هو من يقرر صورته في التاريخ. الحقيقة أنني شخصياً كنت مع محاكمة القذافي التي كان يمكن أن تكشف الكثير في الداخل والخارج.
> لماذا دفن في مكان مجهول؟
– ذهبنا إلى المجلس المحلي في مصراتة. كان رأيي أن يدفن في قبر تحت حراسة مشددة. وأعطيت مثلاً أن قبر ستالين موجود. قال آخرون إن القبر قد يتحول مزاراً لأنصاره. انتصر رأي الآخرين. بعد الصلاة عليه من بعض أقاربه أخذت جثته ودفنت ليلاً في مكان غير معروف. كما دفن معه نجله المعتصم وأعتقد وزير دفاعه أبو بكر يونس.
> هل تقصد أنك لا تعرف المكان؟
– لا أعرف المكان. أعتقد أن معرفة المكان اقتصرت تقريباً على من تولوا دفنه.
> روسيا اتخذت موقفاً سلبياً من «الربيع العربي» أساساً، ما تفسيرك لموقفها؟
– روسيا ارتبطت بعلاقات وثيقة بالنظامين السوري والليبي من دون شك، بالتالي واجهت ظاهرة جديدة ولم يكن هناك تكوين سريع للرأي من داخل دوائر السلطة والقرار في روسيا تجاه هذه الظاهرة الجديدة. الاندفاع الغربي في ما بعد، في دفع هذه الظاهرة خلق مزيداً من الشكوك والتردد لدى القيادة الروسية تجاهها، بالتالي كان موقفهم (الروس) في مجلس الأمن تجاه الحالة الليبية، هم والصين، موقفاً فيه كثير من التوجس. وأعتقد بأن هناك نوعاً من الندم في ما بعد لدى الروس لأنهم لم يحبطوا صدور القرار 1973 الذي أقام الحظر الجوي وتضمن حماية المدنيين بكل السبل. عبارة «بكل السبل» كانت فقرة استُعمِلَت لاحقاً كمدخل لقصف كثير من قوات نظام القذافي على الأرض، وليست حظراً جوياً فقط، من منطلق وقف أي شيء يهدد المدنيين. صياغة واسعة ومرنة أتاحت لدول حلف شمال الأطلسي أن تضرب الكثير من قوات القذافي على رغم أنها لم تشكل انتهاكاً للحظر الجوي، إذ لم يكن هناك طيران علماً أن جوهر القرار كان هذا الحظر. بسبب هذه الصياغة للفقرة الأخيرة التي تقول «واستعمال كل السبل لحماية المدنيين» استُخدِمت هذه الفقرة للتدخل لحمايتهم. هذه الفقرة قد تُستَعمل مستقبلاً في حالة تعرض المدنيين للخطر، حتى الليبيين بينهم وبين أنفسهم. الآن هناك كثير من التشكيلات المسلحة لو شكلت حركتها واشتباكاتها خطراً على المدنيين، قد تُستعمل هذه الفقرة.
> هل صحيح أن خدعة حصلت لتمرير القرار 1973؟
– من طرف ليبيا أعتقد بأن الأستاذ عبدالرحمن شلقم والأستاذ ابراهيم الدباشي، نائب شلقم ومن أوائل الذين انشقوا عن نظام القذافي، لعبا أدواراً بطولية، كما بقية الإخوة في البعثة الليبية لعبوا أدواراً تاريخية. سوزان رايس التي كانت مندوبة اميركا لدى الأمم المتحدة، كانت متعاطفة في شكل كبير جداً مع القضية الليبية ولعبت دوراً كبيراً في صياغة هذا القرار. مندوب لبنان لدى الأمم المتحدة، السفير نواف سلام، أيضاً لعب دوراً لا يمكن أن يُنسى، لأن لبنان كان عضواً في مجلس الأمن، ولعب دوراً رائعاً بكل المقاييس ووقف الى جانب القضية الليبية. تلك العناصر الثلاثة: سوزان رايس، وعبدالرحمن شلقم وإبراهيم الدباشي، ومندوب لبنان داخل مجلس الأمن، في تقديمه القرار وفي دفاعه عنه.
> هل صحيح أن المندوب الروسي حاول تحذير عبدالرحمن شلقم من خطورة القرار؟
– مورست ضغوط شديدة طبعاً، ولكن بالنسبة إلى شلقم والدباشي كان الطريق أصبح واضحاً والقضية أصبحت واضحة، ولا رجعة الى وراء.
> هل كان هناك تنسيق بينك وبين شلقم في تلك الأيام؟
– نعم، كنا على تواصل من الأيام الأولى للثورة، بدأت الاتصالات مع الأخ ابراهيم الدباشي والأخ عبدالرحمن شلقم والأخ علي العيساوي في الهند في اليومين الأولين للثورة، فالفترة من 17 شباط (فبراير) الى 20-21 شباط كانت فترة اتصالات مكثفة.
> القرار 1973 غيّر اتجاه الأحداث في ليبيا؟
– صدر أولاً القرار 1970 ثم صدر القرار 1973 الذي نص على الحظر الجوي. القرار 1973 صدر في 17 آذار (مارس) والتدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي كان في 19 منه.
> تردد أن شلقم خدع الذين راجعوه وحاولوا أن يضغطوا عليه، وقال لهم إن القذافي يريد ذلك.
– هذا حدث مع (الأمين العام للأمم المتحدة) بان كي مون عندما زاره شلقم وقال له: إن لديّ تخويلاً من القذافي بعمل كذا، حتى أنهم استغربوا الأمر واعتقدوا بأنها خديعة من القذافي، وهم يعرفون أن علاقته بشلقم وثيقة جداً، بالتالي لم يكن متوقعاً أن يكون الأخير يمارس في ذلك الوقت خديعة على القذافي وعلى بان كي مون. شلقم لعب هذه الخديعة بمهارة.
> شلقم مرَّر القرار وانشق.
– طبعاً لحظة إعلان الانشقاق كانت خلال إلقائه خطابه داخل مجلس الأمن، خطابه الشهير الذي بكى فيه، لكن الانشقاق سبقها من خلال إعطائه كل التسهيلات لأعضاء البعثة، لأن جميع أعضاء البعثة الليبية انشقوا، وفي العمل مع سوزان رايس وإبراهيم الدباشي لصياغة القرار. لحظة إعلان الانشقاق كانت هي لحظة إلقاء الخطاب في مجلس الأمن قبل التصويت في تلك الجلسة، لكنه أثر جداً في التصويت، لأن جميع الأعضاء الـ 15 في مجلس الأمن تأثروا كثيراً بالخطاب، وكان هناك امتناع روسي وصيني عن التصويت. أعتقد بأن الروس ندموا لأنهم لم يستعملوا «الفيتو» ضد القرار حينها.
> الروس وجدوا لاحقاً أن «الربيع العربي» بدأ يتحول إسلامياً وهم لديهم مشكلة.
– كان هناك خوف من أن يمتد ذلك الى ما كان يُعرف بجمهوريات الاتحاد السوفياتي الإسلامية، فيكون مثل الشرارة التي تنتشر في تلك المنطقة. أعتقد بأن موقف الروس من سورية دافعه ألاّ يتكرر ما حدث في ليبيا من جهة، ومن جهة أخرى حتى لا ينتشر أثر هذا «الربيع العربي» بصيغته الإسلامية الى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، فيصبح داخل البيت.
> كيف كانت الاتصالات مع الروس؟
– قابلت وزير الخارجية سيرغي لافروف، ولكن ليس أثناء الثورة، إذ التقى شلقم حينها. التقيت لافروف بعد خروجي من الحكومة، وكان هناك استعداد لإعادة فتح ملف التعاون الحقيقي مع الحكومة الجديدة برئاسة علي زيدان، وأبدوا استعداداً للتعاون الاقتصادي والعسكري الى أبعد الحدود. حتى أن لافروف عرض في تلك الجلسة صيانة فورية لطائرات «سوخوي» الروسية التي كانت معطلة على الأرض، وأعطى تعهداً بإمكان إصلاح هذه الطائرات في مدة لا تتجاوز أسبوعين، وهي نحو 14 طائرة. اتصلت بعلي زيدان رئيس الوزراء وأبلغته بهذا الاستعداد، وكنت أتوقع، نظراً الى حالة التردي العسكري الليبي وانعدام وجود أسلحة ليبية رادعة لما يحدث الآن على الأرض، أن يتلقف الأخ علي زيدان هذا الأمر بسرعة فائقة ولكن للأسف، ذلك لم يحدث. هو برر ذلك لاحقاً بأن رئيس الأركان قال له إن هذه الطائرات غير قابلة للإصلاح. الطائرات روسية والخبراء الروس كانوا موجودين في ليبيا، وهم أدرى إذا كانت تلك الطائرات قابلة للإصلاح أم لا. كانت فرصة حقيقية لتكون لدى الجيش الليبي قوة جوية موقتة الى أن يُبنى سلاح جوي، أن تكون لدينا 10 الى 14 طائرة «سوخوي» مقاتلة، فعلى الأقل (لتأمين) هذه الحدود المُختَرَقة التي تمتد لأكثر من سبعة آلاف كيلومتر، والمعرّضة لكل أنواع الاختراق: من عناصر مسلحة الى سلاح الى تجارة مخدرات وتجارة سجائر وتجارة في البشر.
كانت لدينا فرصة بهذا الشكل ولم نغتنمها. لو كنت مكانه (زيدان) لاستغليتها ضغطاً على أطراف غربية أخرى لمدّنا بالسلاح فوراً. هناك نوع من التمنّع والتردد لدى دول غربية كثيرة في إنشاء جيش ليبي سريعاً. الآن بدأت الصورة تتغيّر، حتى أننا اكتشفنا أن فكرة الحرس الوطني التي يروَّج لها في ليبيا وراءها أطراف غربية للأسف، وكان يُنظر إلى الفكرة على أنها بديل لإقامة جيش. هذه أشياء تحز في النفس، أن يكون البلد بعد هذه التضحيات مطمعاً أو هدفاً لمشاريع يريدون تنفيذها على الأرض الليبية. وكان الهدف أن ليبيا بهذه الأموال يمكن أن تكون المموِّل للنموذج المُتَحَدَّث عنه الذي كان الغرب يتبناه. وكان بإمكان ليبيا أن تخفف العبء على أوروبا باقتصادها المنهار، لأن اوروبا تقدم معونات اقتصادية لمصر ولتونس والمغرب. كان يُنظر الى قدرة ليبيا على تخفيف عبء هذا العجز التجاري المزمن في الموازنة الأميركية التي تتجاوز 14 تريليون دولار الآن. اميركا كانت تعطي مصر نحو 3 بلايين دولار سنوياً منذ معاهدة كامب ديفيد. كانوا يرون أن ليبيا بلد شاسع وعدد سكانه قليل وثرواته كثيرة، بإمكانه أن يكون منقذاً اقتصادياً يخفف العبء عن الاقتصاد الأوروبي. للأسف لم يفكر أحد من هؤلاء في تنمية جدية في ليبيا، قد تكون هي المساعد لدول الجوار، وفي منع الهجرة غير الشرعية الى أوروبا، عبر «مصدّات تنموية». فأن تكون ليبيا واحة للاستقرار والتنمية، فكل جنوب اوروبا يستقر، ودول الجوار، مصر أو تونس أو الجزائر، قطعاً ستستقر. وربما كررتُ هذا القول في أكثر من مناسبة: لن تستقر الأحوال في مصر وفي تونس أو الجزائر ما لم تستقر في ليبيا.
ليبيا من دون دولة، في حالة انفلات. عناصر كثيرة بمختلف التوجهات غير مُسيطَر عليها، لأن أدوات السيطرة غير موجودة لدى الدولة، وليس لدى الدولة سلاح ولا شرطة ولا مؤسسات قضائية، فلا يمكن أن تُحمَّل نتائج سلوك أفراد بالتغلغل في هذا البلد أو ذاك، أو بتسريب سلاح إلى هذا البلد أو ذاك.
> هل يمكننا القول إن ليبيا اليوم خطِرة على نفسها وخطِرة على جيرانها؟
– نعم بكل المقاييس. خطِرة على نفسها في حالة غياب حوار وطني جدي يجمع كل الشركاء الليبيين من دون تفرقة، وأنا في مرات عدة أخبرت حتى الغربيين، سواء في بروكسيل أو الولايات المتحدة، أن التطرف في ليبيا ظاهرة مفروضة وليست اختيارية، فرضها القذافي على هؤلاء الشباب. الحل لو جلس هؤلاء الشباب الى طاولة حوار، باستثناء الذين يكفّرون المجتمع ويكفّرون العالم لأن هذا رافض للآخر، فيما بقية التيارات الاسلامية التي توصف بالتطرف أو بجنوحها الى شيء من التشدد، لم تُتَح لها الفرصة لتكون شريكاً مساوياً في اتخاذ القرار في بناء الأوطان. بالتالي، لا تحرموها هذه الفرصة، ومارسوا الضغوط على الدول التي ترعى بعض هذه الأطراف داخل ليبيا، لنجلس الى طاولة حوار وطني، ونصل الى كلمة سواء، لأن الشرعية أمر مختَلف عليه في ليبيا من منطلق أن هذه الثورة كانت انتفاضة شعبية عارمة باتساع الوطن. فكلٌ يدّعي أنه يمتلك شرعيتها من منطلق أنه شارك فيها: ثوار الجبهات، قبل 20 آب (اغسطس) وسقوط النظام وانتفاضة طرابلس، هؤلاء الثوار يرون أن لهم الفضل في إسقاط النظام، الأشخاص الذين كانوا يؤمّنون الدواء والغذاء ويقومون بمداواة الجرحى يعتقدون بأنهم ساهموا مساهمة فاعلة. كذلك رجال الأعمال الذين شاركوا بأموالهم، ورجال الإعلام الذين كانوا يتحدثون عبر الفضائيات ويشرحون القضية للرأي العام يعتقدون بأنهم كانوا عاملاً مهماً، كذلك رجال السياسة الذين سعوا وراء (نيل) الاعترافات لتأمين الغطاء السياسي. الثورة هي جهد مشترك من كل أطياف الشعب الليبي، فلا يحق لأحد أن يدّعي ملكيتها أو احتكار شرعيتها. لو توصّلنا الى أن الشرعية مشتركة، من منظور مشاركة الجميع في هذه الثورة، وأن ملكيتها ملكية مشاع، مشتركة بين كل الأطراف، تكون هذه نقطة البدء، فلا طرف يُقصي الآخر. هذا الأمر لم نصل إليه بعد في ليبيا. لو وصلنا الى هذه النقطة لتأسَّس الحوار ولاستُبعِدَت أطراف خارجية كثيرة تحاول أن تعمِّق الهوة بين شركاء الوطن في ليبيا، خدمة لأجندتها الخاصة. فكثيرون يعتقدون بأنه يمكن استعادة مصر مرة أخرى من طريق ليبيا، ربما عبر مدّ تيارات معينة بالسلاح والرجال والمال داخل مصر، لإشاعة مزيد من عدم الاستقرار فيها. اي محاولة من هذا النوع ستكون مؤذية لمصر وشديدة الخطورة على ليبيا وسترتب عواقب وخيمة.
مشكلة لمصر والجزائر وتونس
لذلك، ليبيا ستكون مشكلة أمن قومي بالنسبة إلى مصر وتونس والجزائر. فلا بد من تكاتف الجهود أولاً داخل ليبيا. ليبيا لليبيين، والحوار لا بد من أن يكون ليبيّاً – ليبيّاً وعلى أرض ليبية وبأجندة ليبيّة. هذه الثورة كانت ثورة ليبية من الألف الى الياء ولا بد من أن تُكتَب نهايتها بأيدٍ ليبية وليست خارجية، بحيث يكون الفصل النهائي فيها بإقامة الدولة وطرح الحلم التنموي وبدء تنفيذه. فيكون حلماً ليبيّاً وتكون دولة ليبية في تفصيل مقاساتها وتصميم إداراتها ومؤسساتها وتشغيلها بكوادر ليبية. هذا الأمر لا بد من أن يدركه الليبيون، لأن كثيرين من هذه العناصر يصفونها اليوم بالتطرف ويتحدثون أنها قد تكون مصدر إرهاب للمنطقة، فإذا كانوا هم مصدر إرهاب فلماذا سمحتم بدخولهم الى ليبيا وأنتم تراقبونهم ليل نهار وغضّيتم الطرف عن دخولهم؟ حتى تستعملوهم في ما بعد كذريعة للتدخل في ليبيا. هنا أتحدث عن «القاعدة» وكل عناصر التطرف. إذا كنت ترى أنهم يشكلون خطراً على المنطقة فلماذا سُمِحَ بدخولهم؟ ومخابراتهم تعمل على الأرض وطائراتهم تجوب السماء، فهم كانوا يراقبون كل شاردة وواردة تدخل الأراضي الليبية ولديهم الصور الموثَّقة لذلك. وعُرِِض بعضها على بعض الحكومات الليبية التي تلت المكتب التنفيذي، فهم كانوا يرصدون تحركات هذه الجماعات. إذاً تحرك عناصرها كان مسموحاً به، لماذا لم يتم منعهم؟ لماذا لم يُطلب من الدول التي تحركوا منها، سواء كانت مالي أو تشاد أو النيجر أو الجزائر أن تمنع هذه الجماعات من الدخول الى ليبيا؟ سمحوا بذلك حتى يستعملوهم بعد ذلك كذريعة لاختراق السيادة الليبية وتنفيذ مشروعات معينة. هذا أمر لا بد من أن ينتبه اليه الليبيون لأنه خطير وقد يؤدي الى تقسيم الوطن وتنفيذ مشاريع لا تخدم الليبيين على الاطلاق.
خطر التقسيم
> هل هناك خطر حقيقي من تقسيم ليبيا؟
– هناك خطر إذا لم ينتبه الليبيون. هناك دعوات ليس إلى إحياء الفيديرالية فقط كنظام إداري للدولة، بل هناك محاولات لاستغلال هذه الدعوات لنقلها من مرحلة المطالبة بالفيديرالية كنظام إداري الى مرحلة التقسيم. ذكرتُ أكثر من مرة أننا رصدنا اتصالات لسفراء بعض الدول أثناء الانتفاضة ببعض القبائل لهذا الأمر، ولمحاولة حضها على تبني نظام الفيديرالية، وبين هؤلاء السفير الأميركي الذي اغتيل، كريس ستيفنز الذي كان يقوم بهذه الاتصالات ويدعو الى الفيديرالية في ذلك الوقت. رصدنا بعض الاجتماعات له مع قبائل في هذا الشأن، وأذكر أنني تحدثت مع هيلاري كلينتون في هذا الأمر وكان ردها أن هذا تصرف فردي لا يعبِّر عن (سياسة) الإدارة الاميركية. وأنا أستبعد أن يتصرف سفير من منطلق فردي، إذا كان ذلك مخالفاً لسياسة دولته.
فرنسا أيضاً تتحرك في الجنوب، تحديداً مع قبائل التبو. لدينا في ليبيا تنوع إثني، وهذا من المكونات الثقافية للمجتمع الليبي: الأمازيغ، والطوارق، والتبو التي هي قبائل ليبية جاء بعضها من أصول افريقية في جنوب البلاد. كانت هناك اتصالات مع قبائل التبو وبعضها له امتدادات داخل تشاد، فالقبيلة موزعة بين الأرضين، من المنظور الفرانكوفوني القديم أن تشاد والنيجر بعد نهاية الاحتلال الايطالي، كانت الفزّان أو الجنوب في فترة الوصاية تحت سيطرة الفرنسيين، فكانت هناك اتصالات تصب في هذا الاتجاه.
الأميركيون والفرنسيون كانوا يقودون هذا التوجه، ولكن كانت هناك مباركة من أطراف أخرى غربية، أما الأطراف العربية فأعتقد بأنها تلعب دوراً ثانوياً في موضوع التقسيم والفيديرالية.
الفيديرالية التي تُطرَح الآن هي فيديرالية وطنية، تحركت نتيجة للإقصاء والتهميش اللذين عاناهما بعض أنحاء البلاد، فعناصر هذه الفيديرالية كانوا ينتظرون بعد 17 شباط (فبراير) أن تكون هناك لا مركزية، وتنمية مكانية، وأن يُنقل شيء من الموازنة الى الأطراف. فغالبية التشكيلات المسلحة والاحتقان كانت في المنطقة الغربية لأن غالبية الصراع المسلح ضد القذافي كانت في المنطقة الغربية، من سرت الى رأس جدير الى الحدود التونسية. عندما تتحرك مثلاً من مدينة جدابيا في الشرق حتى مساعد، فهذه منطقة تحررت مبكراً، خلال أيام، في عهد القذافي ولم تشهد صراعاً مسلحاً. بالتالي كان أهالي هذه المدن يعتقدون بأنه حان الوقت بعد ثلاث سنوات على 17 شباط لينالوا شيئاً من الخدمات حتى يشعروا بأن هناك تغييراً حقيقياً. فوجدوا أن قضية التهميش والإقصاء والمركزية المفرطة والمتشددة ما زالت مستمرة، وأن طرابلس أو الحكومة المركزية فيها تسيطر على كل شيء.
في ضوء الهدر والاستنزاف لموارد الدولة، زادت الدعوة إلى الفيديرالية اشتعالاً، لأن استنزاف الأموال في السنتين الأخيرتين لا مثيل له في تاريخ ليبيا، ولا في تاريخ المنطقة. وأُعطي هنا مثاليْن سريعَيْن: الحكومة الانتقالية للسيد عبدالرحيم الكيب تلت المكتب التنفيذي الذي كان في فترة الانتفاضة، وكانت لديها موازنة مقدارها 68 بليوناً، ثم جاءت حكومة علي زيدان فطلبت 66 بليوناً وأضاف اليها 15 بليوناً ثم، بسبب إقفال الحقول النفطية، طلب 7 بلايين أخرى، فنتحدث إذاً عن 90 بليوناً. هذا الأمر يُعتبر نهباً لأموال الشعب الليبي في شكل صريح، لسبب بسيط. ففي أيام النظام السابق، أيام حكومة البغدادي المحمودي، كان هناك خلاف كبير بيني وبين البغدادي في خصوص موازنة الدولة. إذ كنت أرأس مجلس التخطيط الوطني، وقدّمت حكومة البغدادي موازنة بمبلغ 247 بليوناً على مدى ثلاث سنوات. واعتقدتُ بأن هذا المبلغ كبير بكل المقاييس، خصوصاً أنه لم تكن هناك مستهدفات نمو قطاعي تقابل هذا المبلغ. فإذا قلت أحتاج 100 مليون للزراعة أريد أن أعرف كم ستحقق نمواً في هذا القطاع حتى أحاسبك في ما بعد، هل حققت المستهدف أم لم تحققه؟ إذ لم تكن هناك مستهدفات قطاعية، بالتالي طلبت أن تُرفق بهذا التقدير الجزافي للموازنة أهداف نمو قطاعي. بعد شهر كان الرد أن لا مستهدفات، فطلبت تخفيض الموازنة فخُفّضت الى 150 بليوناً. كنت أتوقع أن يُخفّض عدد المشاريع كون الموازنة خفضت لكن بقي العدد كما هو، فطلبت تخفيضها مرة أخرى، فخفّضت الى 123 بليوناًً وظل عدد المشاريع كما هو، مما يدعوك للشك بأن الأمر ليس مخططاً ولا يتم على أسس مهنية. على رغم ذلك، عندما اشتد الخلاف استعنّا بالبنك الدولي وجاء خبراء لديه لدرس حالة الاقتصاد الليبي، وأصدروا تقريراً يقول إن القدرة الاستيعابية لهذا الاقتصاد لا تتجاوز 40 بليوناً في أفضل حالاته كحد أقصى، أي أنه لا يستطيع أن يمتص أكثر من ذلك. فإذا كان البنك الدولي يعتبر أننا مهما أنفقنا لن نستطيع في اقتصادنا أن نستوعب أكثر من 40 بليوناً، أين ذهبت الـ 68 بليوناً الأولى في (عهد) حكومة الكيب، وأين تذهب الآن الـ 90 بليوناً الثانية في حكومة السيد زيدان؟
<sp